”جثة فتاة أوسيم المتفحمة”: القصة الكاملة لكشف أحد أعقد الألغاز في تاريخ البحث الجنائي

في أحد الأيام القاتمة، داخل منطقة نائية لتجميع القمامة في أوسيم، بمحافظة الجيزة، وبينما كان الصمت يخيم على المكان الذي قلّما تطأه أقدام البشر، دوى صراخ من عمق المجهول. عثر أهالي المنطقة على جثة متفحمة لفتاة مجهولة الهوية، مبتورة الساقين، في مشهد مأساوي لا يُنسى. كانت الجثة ملقاة وسط القمامة، تحيط بها علامات استفهام لا تنتهي، وتحوم حولها رائحة موت غامض طالما اعتادت هذه البقاع على إخفائه.
بلاغ غامض وصدمة أولى
تلقت غرفة عمليات الشرطة بلاغًا من الأهالي، يفيد بالعثور على جثة محترقة بالكامل داخل منطقة نائية بأوسيم. انتقلت على الفور قوة من المباحث الجنائية، وفرضت طوقًا أمنيًا حول المكان، وبدأت فرق الأدلة الجنائية في رفع البصمات وجمع ما أمكن من القرائن في مسرح بدا خاليًا من كل شيء... إلا من الغموض.
أشارت المعاينة الأولية إلى أن الجثة تعود لفتاة في العقد الثالث من العمر، وقد تعرضت للحرق الكامل، وكان المشهد الأكثر رعبًا أن ساقيها بُترتا بطريقة غير واضحة. لا وثائق، لا أوراق، لا خيوط واضحة يمكن أن تقود إلى هويتها أو ما حدث لها. وهنا بدأت رحلة البحث عن إبرة في كومة قش.
34 سنة من العمر.. وغياب بلا بلاغ
لم يكن لدى فريق البحث أي بلاغات تغيب عن فتاة بهذه المواصفات. تبين لاحقًا أن الضحية كانت قد غادرت منزل أسرتها قبل عام ونصف، دون أن تترك خلفها أثرًا، أو حتى تساؤلًا من أحد. صعّب ذلك من مهمة البحث، فلا اسم، ولا شكوى، ولا خيط أول يمكن سحبه. وهكذا، دخل رجال مباحث الجيزة في نفق معتم من التحقيقات، لا تُضيئه إلا عزيمتهم العنيدة في كشف المستور.
25 يومًا من العمل المتواصل لفك لغز "اللغز الأسود"
لم يكن مجرد تحقيق عابر. على مدار 25 يومًا، استمر فريق البحث في العمل ليلًا ونهارًا. تم تفريغ مئات الساعات من كاميرات المراقبة، ورُصدت كل حركة في محيط الجريمة، وراجعت فرق التحقيق خطوط السير المحتملة، بحثًا عن أي مشهد، أي وجه، أي شيء يقود إلى الحقيقة... لكن لا شيء. بدا وكأن الضحية خرجت من العدم، وعادت إليه.
رغم ذلك، لم تيأس المباحث. ووسط هذا الضباب، وصلت معلومة واحدة، أشعلت بصيصًا من الأمل: "الفتاة كانت بصحبة شاب في إحدى الشقق، وهناك تعاطيا المخدرات سويًا". وبفضل هذه الخيوط الدقيقة، استطاع رجال المباحث تضييق الدائرة، وجمع الأدلة التي قادتهم إلى القصة الكاملة.
القصة المفجعة: موت مفاجئ.. وقرار مروّع
اتضح أن الفتاة كانت تقيم مع "صاحبها" داخل شقة سكنية. وفي الليلة المشؤومة، تعاطيا المخدرات سويًا، إلى أن فقدت وعيها إثر جرعة زائدة أدت إلى وفاتها في الحال. أصيب الشاب بالذعر. لم يكن قادرًا على استيعاب الموقف، ولم يُفكر في إسعافها، بل قرر التخلص من الجثة.
في مشهد من مشاهد الرعب، لف جثمان الضحية داخل سجادة، ثم حملها وألقى بها في القمامة، في منطقة نائية داخل أوسيم، وكأنها لم تكن إنسانة، بل مجرد "شيء" ثقيل أراد التخلص منه.
الصدفة التي كشفت الكارثة: راعيا غنم والسجادة الغامضة
القضية لم تتوقف عند هذا الحد. بعد مرور وقت قصير، مرّ اثنان من رعاة الأغنام بالقرب من المكان، ولاحظا وجود سجادة تبدو بحالة جيدة وسط القمامة. دفعهما الطمع إلى محاولة الحصول عليها، لكن ما إن فتحاها حتى صُدما بمنظر الجثة بداخلها.
الصدمة كانت ساحقة. ارتبكا، ارتعدت أطرافهما من الخوف، ظنّا أن الشرطة قد تتهمهما بالجريمة، فقررا التصرف بطريقة مأساوية: أشعلا النيران في الجثة لمحاولة إخفاء معالمها... دون أن يدركا أن النيران لن تُطفئ الحقيقة، بل ستشعل شرارة البحث عنها.
نهاية الرحلة: كشف المستور وتقديم الجناة
رغم كل محاولات الطمس، ورغم صمت الشوارع والكاميرات، ورغم مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على وقوع الجريمة، إلا أن إصرار رجال مباحث الجيزة لم يهدأ، حتى توصلوا إلى الجناة الثلاثة: الشاب الذي شارك الضحية لحظاتها الأخيرة، وراعيي الغنم اللذين قررا أن يحرقا الحقيقة.
لم تكن مجرد جريمة، بل واحدة من أغرب قضايا القتل التي عرفها تاريخ البحث الجنائي في مصر. جثة متفحمة، بلا هوية، بلا بلاغ اختفاء، بلا خيوط أولية، وبلا رحمة.
في النهاية.. القصة لم تكن فقط عن جريمة، بل عن فتاة خرجت من بيتها منذ سنة ونصف، ولم يسأل عنها أحد. فتاة انتهت حياتها في صمت، واحترق جسدها وسط القمامة، لتكشف لنا هذه المأساة عن هشاشة بعض المصائر، وعن عظمة من لا ينامون حتى يقولوا كلمة العدالة.
تحية لرجال مباحث الجيزة، الذين خاضوا هذا الظلام بحثًا عن عدالة مجهولة، ولم يتوقفوا حتى أخرجوها إلى النور.